دخل لبنان للمرة الثالثة على التوالي نفق الفراغ الرئاسي مصحوباً بفراغ حكومي أوّل وذلك عقب انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في الواحد والثلاثين من شهر تشرين الأول الماضي تاركاً قصر بعبدا بلا وريث ومرفقاً مغادرته بإمضاء مرسوم قبول استقالة الحكومة في اللحظة الأخيرة ليبدأ رسميّاً عهد “الفراغ المزدوج” المليئ بسلسلة من التحديات السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والأمنية التي أضحت تشكل تهديداً حقيقياً للنظام اللبناني وتضع اللبنانيين أمام جملة من التحديات الصعبة.
وعلى الرغم من خطورة ما يحمله الفراغ الرئاسي والدستوري، لم ينجح المجلس النيابي المنهمك في انشقاقاته وتجاذباته الحادة في انتخاب رئيس جديد للجمهورية حيث باءت الجلسات الخمس كافة بالفشل في صورة تعكس مدى الانقسام العامودي داخل الكتل السياسية في البرلمان وعدم قدرتها على وضع خلافاتها جانباً والتوافق فيما بينها من أجل انجاز هذا الاستحقاق الدستوري ليبقى “الشغور الرئاسي” سيّد الموقف. ومع تخييم شبح الفراغ على الرئاسة الأولى وتعطيل عمل الرئاسة الثانية واستمرار نزاع الصلاحيات، تتصاعد المخاوف من إحتمال بقاء باب الشغور مفتوحاً لفترة طويلة الأمر الذي قد يؤدي إلى انهيار البلد وما تبقّى من مؤسساته بشكل كامل.
تساؤلات عدّة تطرح حول تداعيات هذا الفراغ على الوضع الاقتصادي المتداعي وعلى مصير المفاوضات مع صندوق النقد الدولي . رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي طمئن إلى أنّ لبنان ما زال بإمكانه إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي بقيمة ثلاثة مليارات دولار على الرغم من عدم وجود رئيس أو حكومة كاملة الصلاحيات في محاولة منه للتخفيف من تداعيات الفراغ الدستوري الذي يمر به لبنان على الوضع المالي المنهار. بدوره، حرص نائب رئيس مجلس الوزراء سعادة الشامي على بث أجواء إيجابية منخ لال التشديد على أنّ الاتفاق المبدئي مع الصندوق لا يزال صالحاً. ولكن إن طال الوقت، فإنّه من الممكن إعادة النظر ببعض بنود الاتفاق، مع التأكيد على أن العناصر الأساسية فيه لن تتغيّر. من جهة أخرى، استبعدت بعض المصادر الاقتصادية قيام صندوق النقد الدولي بالتفاوض مع حكومة تصريف أعمال غير قادرة على اتخاذ قرارات كبرى، الأمر الذي يعني عدم إحراز أي تقدّم على هذا الصعيد في الوقت الراهن.
هذا وتجدر الإشارة إلى أنّ الاتفاق مع صندوق النقد مرتبط أيضاً بتنفيذ سلسلة من الإصلاحات المشروطة والمتمثّلة في تعديل قانون السرية المصرفية، إقرار قانون الكابيتال كونترول، تشكيل الهيئة الناظمة وإعادة هيكلة القطاع المصرفي وتوزيع الخسائر التي تُعتبر العقبة الأهم لا سيما مع تمسّك الصندوق بسياسة شطب الودائع او اختزالها إلى الحدّ الأدنى على اعتبار أنّ الودائع هي ديون يجب التخلّص منها، بغض النظر على عاتق من سوف تقع ومن هو الخاسر الأكبر . أمّا فيما يتعلّق بالموازنة العامة، فهي وإن تمّ إقرارها غير أنّها تتضمّن الكثير من الاشكاليات حول مدى جدواها في ظل وهميّة الأرقام وغياب توحيد سعر صرف الدولار. مشاريع القوانين الاصلاحية ما تزال غائبة حتى اليوم وفي حال تمّ الاتفاق عليها وهو بالأمر الغير متوقّع حالياً، سوف ترتطم في حائط التشريع والصراع الدائر حول قدرة البرلمان على عقد جلسات تشريعية مع وجود الفراغ وتصريف الأعمال.
سنوات وأشهر من هدر الوقت كان عنوانها الأبرز عدم الجدية في الاداء والمماطلة في تنفيذ الاصلاحات المطلوبة، أدّت إلى إبطاء مسار المفاوضات والحيلولة دون إيصال الإتفاق إلى طريق التوقيع النهائي. مع تجدّد الغرق في دوامة الفراغ الرئاسي والدستوري وهزلية الجلسات الانتخابية واستمرار اللعب في الوقت الضائع ، تصبح عملية استكمال الاصلاحات التشريعية والادارية معقّدة جداً. فالفراغ يولّد فراغاً على كل الأصعدة وما لم يتمّ تنفيذه في عهد الرئاسات بالتأكيد لن يتمّ تنفيذه في عهد الفراغ ، لتصبح الامال حول عقد الاتفاق مع الصندوق ضئيلة ومتعثرة ولتبقى المفاوضات معلّقة إلى أجل غير مسمّى لحين انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة قادرة على دفع عجلة التفاوض إلى الأمام وإعادة الثقة الداخلية والخارجية والحصول على الدعم المالي المنشود، من أجل انتشال لبنان من غمار أزمته ووضعه على سكة النهوض والتعافي الاقتصادي.