إحتفل العالم في 17 من تشرين الأول بالذكرى السنوية الثلاثين لليوم العالمي للقضاء على الفقر، في وقت يغرق العالم بمستنقع من الأزمات والصراعات والحروب، جعلت ملايين الأشخاص يعانون من فقر معدم ويواجهون شتى أنواع المعاناة والحرمان. وكما هو معتاد، يستحوذ لبنان دائماً على حصة الأسد من كل الويلات والمصائب، هذا البلد الذي ما يزال يغرق في أزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتتالية آخرها الدخول في نفق الفراغ المجهول.
منذ بداية الأزمة، تتوالى التقارير والبيانات المحذّرة من هول الانهيار الكارثي الذي جعل من اللبنانيين شعباً مصنّفاً على لائحة الفقر المتعدد الأبعاد غير قادر على الصمود والنجاة، نتيجة تدهور الليرة اللبنانية مقابل الدولار وانخفاض القدرة الشرائية وتراجع الحد الأدنى للأجور والرواتب. فأرقام الفقر المخيفة التي تجاوزت جميع الخطوط الحمراء دفعت بالكثير من المسؤولين الدوليين والمنظمات الأمميّة إلى دق جرس الإنذار، ولعلّ التقرير الأدق توصيفاً للوضع اللبناني المرير كان ذاك التقرير الصادر عن المقرر الخاص المعني بمسألة الفقر المدقع وحقوق الإنسان “أوليفييه دي شوتر” الذي وجّه انتقادات لاذعة للسلطات اللبنانية المستمرّة في إتّباع أساليب اللاّمبالاة والإهمال معتبراَ أنّ المسؤولين ليس لديهم أي شعور بضرورة التحرك العاجل، أو العزم اللازم، لتحمل مسؤولياتهم إزاء أزمة اقتصادية أدّت إلى “إفقار وحشي” للمواطنين.
التقرير أشار إلى أنّ لبنان يتخبّط اليوم في أزمة من أسوأ الازمات الاقتصادية والمالية في التاريخ. وقد أدى تدمير العملة الوطنية والزيادات الفاحشة في الأسعار وانهيار القطاع المصرفي إلى تدمير حياة الناس وإغراق لبنان في فقر مدقع وسط ركود سياسي طائفي. كما تسبّب التقاعس عن مواجهة هذه “الأزمة المصنعة” غير المسبوقة بحالة بؤس شديد تحكم على الكثيرين بفقر سيتوارثه الناس جيلاً بعد جيل. كما لفت إلى أنّ الدولة اللبنانية، بما في ذلك مصرفها المركزي، مسؤولة عن انتهاكات حقوق الانسان، بما في ذلك الإفقار غير الضروري للسكان، الذي نتج عن هذه الأزمة التي هي من صنع الإنسان. وكان لبنان قبل الأزمة يتّسم بمستويات مروّعة من تركيز الثروة في القمة؛ وسياسة جبائية تشجّع التهرب وتعود بالنفع على الأثرياء؛ وإهمال مزمن لخدمات التعليم العام والرعاية الصحية، وقصور في نظام الحماية الاجتماعية؛ وفشل في قطاع الكهرباء.
هذا وأوصى التقرير بضرورة أن يقوم لبنان بتغيير مساره، إذ يمكن عكس اتجاه البؤس الذي حلّ بالسكان بقيادة تصنع العدالة الاجتماعية والشفافية والمساءلة في صميم أعمالها. ويمكن للمجتمع الدولي، بل وينبغي له، أن يقدّم الدعم، ولكن هذا لن يكون له أثر إلا إذا اعتمدت إصلاحات هيكلية لوضع حد لعملية التفقير.
أرقام الفقر المخيفة كانت قد عكستها لجنة الأمم المتحدة الإقتصادية والإجتماعية لغربي آسيا “الإسكوا” في تقريرها العام الفائت والذي حمل عنوان “الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان: واقع أليم وآفاق مبهمة”. المنظمة أشارت إلى أن الفقر في لبنان تفاقم إلى حد هائل في غضون عام واحد فقط وأصبح يشمل 74 في المئة من اللبنانيين خلال 2021، بعد أن سجل 55 في المئة من السكان في2020، و28 في المئة في 2019. وإذا ما تم أخذ أبعاد أوسع من الدخل في الإعتبار، فإن نسبة الذين يعيشون في فقر متعدد الأبعاد تصل إلى 82 في المئة من السكان، أي أن النسبة قد تضاعفت تقريباً بين عامي 2019 و2021 من 42 في المئة إلى 82 في المئة لتتضاعف معها نسبة الفقر المدقع المتعدد الأبعاد إلى 34 في المئة من مجموع السكان وفي بعض المناطق اللبنانية أكثر من نصفهم.
وبانتظار أرقام هذا العام، لا توجد بوادر إيجابية تدعو إلى انخفاضها مع تفاقم الفقر في لبنان بمختلف المجالات وبكافة المقاييس. فعلى الرغم من المبادرات المختلفة للحد من تصاعده إلا أنه بلغ مستويات قياسية صادمة على خلفية التراجع الحاد في النشاط الاقتصادي، وانخفاض قيمة الدخل والمدخرات بسبب التضخم ، وضوابط رأس المال ، وخفض الدعم عن السلع الاستهلاكية الاساسية ومواد المحروقات. فالبلد الذي يعاني من أشرس أزمة اقتصادية خلقت سلسلة أزمات متشابكة أبرزها عدم الاستقرار السياسي، النقص في الأمن الغذائي والاجتماعي، ارتفاع معدلات البطالة، أزمة الكهرباء والغاز والمياه، التفلّت الأمني وارتفاع أعمال العنف والجرائم. هذا بالاضافة إلى انتشار جائحة كورونا وما رافقها من ضغوط على الصحة والتعليم والتوظيف، وتصاعد الخوف من تفشي وباء الكوليرا، كلّها عوامل ساهمت جميعها وبشكل مشترك في تزايد حالات الحرمان من الحصول على الرعاية الصحية والطبابة والأدوية والخدمات الحيوية والمرافق والتعليم والعمالة وتأمين السكن ومتطلبات الحياة الاساسيّة.
مما لا شك فيه أنّ تصاعد وتيرة الانهيار وتوسّع دائرة المعاناة والمآسي التي يمرّ بها اللبنانيون وتعثّر النمو وفشل تحقيق التنمية المستدامة وانعدام المساواة وبرامج الحماية الاجتماعية، يجعل القضاء على الفقر بمثابة “المهمة المستحيلة” في ظل غياب مؤسسات الدولة وفشلها في إدارة الأزمات ومعالجتها ، ليبقى تلك الآلة الوحشيّة التي تهدم إنسانية المواطن اللبناني وتُلبسه رداء الذل والحرمان وتجرّده من أبسط الحقوق والحريات.