استفاق اللبنانيون اليوم على خبر السقوط الحاد والانهيار التاريخي لسعر الصرف الذي سجل مئة ألف ليرة للدولار الواحد في السوق الموازية. هو يوم مأساوي جديد من أيام الليرة اللبنانية السوداء التي دخلت منذ العام 2019 نفق المعاناة اليومي المرير. لم يكن وصول سعر الصرف عتبة المئة ألف بالأمر المستغرب، لا بل كان متوقعاً ومنتظراً لا سيما مع انسداد الأفق السياسي وتواصل تفلّت السوق السوداء بمحاذاة سلسلة من القرارات المتخذة التي ساهمت في تعزيز المسار التصاعدي للدولار.
إذاً، وعلى الرغم من تحديد سعر الصرف الرسمي عند مستوى الخمسة عشر ألف ليرة للدولار منذ شهر شباط الماضي، يستأنف سعر الصرف قفزاته الجنونية مع عودة المصارف صباح اليوم إلى إضرابها المفتوح بعد إصدار أحد القضاة في بيروت قراراً يقضي بأن يدفع بنك “ميد” مبلغ 210 آلاف دولار نقداً، لأحد مودعيه، تحت طائلة ختم المصرف بالشمع الأحمر؛ وهو القرار الذي اعتبرته جمعية مصارف لبنان تعسفياً. هذا وقد أعلن المرصد الأوروبي للنزاهة في لبنان، أن قاضية فرنسية ستصل إلى البلاد في الساعات القليلة المقبلة، من أجل ستجواب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في االإتهام الموجه ضده بجرائم الاختلاس وتبييض الأموال والتزوير والإثراء غير المشروع.
منذ العام 2019، والأزمة الاقتصادية تتفاقم في لبنان وسط استمرار هبوط الليرة إلى مستويات تاريخية صادمة مقابل الدولار، لتشهد البلاد انهياراً مالياً واقتصادياً واجتماعياً شاملاً خسرت الليرة خلاله ما يقارب الـ 98 في المئة من قيمتها أمام الدولار. مسلسل انهيار الليرة بدأ في خريف 2019 مع ظهور أولى بوادر نقص العملة الأجنبية، تبعه اندلاع الثورة في تشرين الأول بُعيد الإعلان عن ضريبة على مكالمات الواتساب بقيمة 6 دولارات لكل مشترك في الشهر. أما في تشرين الثاني من العام نفسه، فرضت المصارف في لبنان قيودًا على عمليات سحب وتحويل الأموال إلى الخارج ليبلغ سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية نهاية العام عند مستويات الألفين ليرة لبنانية.
بدأ عام جديد، ولعلّ أبرز ما حصل العام 2020، هو إعلان رئيس الحكومة حسان دياب في شهر أذار تخلّف لبنان عن سداد الديون للمرّة الأولى في تاريخه بالتزامن مع ركود اقتصادي ناجم عن اعلان الاغلاق جراء جائحة فيروس كورونا. وفي الشهر التالي أي نيسان ظهر مصطلح “اللولار” بعد أن حدد مصرف لبنان معدل سحب الودائع المصرفية بالدولار على سعر 3000 ليرة للدولار، وهو معدل أعلى من السعر الرسمي المعتمد ولكنه أقل من السوق الموازية حينذاك. في الرابع من آب 2020، تسبّب انفجار المرفأ الكارثي في عواقب اقتصادية كبيرة وأضرار مادية هائلة عمّقت من جراح الليرة اللبنانية.كما وتابع مسلسل الانهيار حلقاته مع فرض المركزي في تشرين الأول 2020 المزيد من القيود على حسابات الليرة اللبنانية حيث كان يتم تداول الدولار عند 7000 ليرة لبنانية في السوق السوداء.
في العام 2021، تدهوت الأزمتين الاقتصادية والمالية بشكل مريع بعد أن نفذت احتياطيات النقد الأجنبي التي خصّصها مصرف لبنان لدعم النفط والقمح والأدوية، الأمر الذي أدّى إلى فترات طويلة من نقص في المواد الغذائية والمحروقات والكهرباء. وفي شهر حزيران ، بلغ معدل التضخم 281 في المئة، كما ارتفعت في آب 2021 أسعار الغذاء وحدها بـ550 في المئة لتفقد فقدت العملة الوطنيّة 90 في المئة من القيمة التي كانت عليها قبل حدوث الأزمة. هذا وواصلت المصارف فرض القيود التعسفيّة الاعتباطية على السحوبات النقدية. وشهد العام 2020 أيضاً، قرار رفع الدعم واطلاق منصة “صيرفة” والكثير من التعاميم الصادرة عن مصرف لبنان ليختم العام على سعر صرف يتراوح ما بين 27000 و27500 ليرة لبنانية.
عام الـ2022 كان عام الاستحقاقات الدستورية الكبرى، وهو العام الذي تمّ فيه إجراء الانتخابات النيابية. وبالرغم من إنجاز هذا الاستحقاق إلا أن الازمات لم تنته، حيث وصل سعر الصرف في شهر أيار ، أي قبل انتخاب رئيس المجلس النيابي، عتبة الـ 38 الف ليرة للدولار الواحد. في خريف 2022، برز حدثين هامين على الساحة اللبنانية : الأول كان اتمام اتفاق ترسيم الحدود البحريّة والثاني تمثّل في انتهاء ولاية رئيس الجمهورية السابق ميشال عون، لينخفض الدولار حينها من مستوى ال38 ألف ليرة إلى ما يقارب الـ35 ألف ليرة فقط. هذا وشهد العام ، اقتحام العديد من المصارف اللبنانية حيث قام بعض المودعين بعمليات سطو واقتحام مسلحة من أجل لاستعادة أموالهم المجمّدة منذ بدء القيود غير القانونية على الحسابات المصرفية. وفي نهاية كانون الأول 2022، ارتفع سعر الصرف مجدّداً ليبلغ عتبة الـ43 ألف ليرة للدولار.
لم يكن العام 2023 أفضل حالاً، إذ تضاعف فيه سعر الصرف من حوالي الـ43 ألف بداية العام وصولاً إلى ما يقارب الـ83 ألف ليرة منتصف شهر شباط الفائت. فالعام الحالي استهلّ العمل بتسعيرة الدولار الجمركي الجديدة التي تم تحديدها بـ15 ألف ليرة لبنانية بدلاً من 1507 ليرات. ومع بداية شهر آذار، رفع لبنان الدولار الجمركي من 15 إلى 45 ألف ليرة بعد أن وافق رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي على كتاب وزارة المالية بطلب رفع سعر صرفه. وبالتوازي مع ذلك، دخل تسعير السوبرماركت بالدولار حيّز التنفيذ ليواصل سعر صرف الدولار في السوق السوداء تحليقه الجنوني، ملامساً عتبة الـ90 ألف ليرة.
وبالإضافة إلى كل ذلك، يزيد التخبط والشلل السياسي الوضع سوءاً وتعقيداً مع استمرار حالة المراوحة والفشل الدائم في انتخاب رئيس جديد والذي أغرق البلاد في فراغ رئاسي، ناهيك عن العجز في اتخاذ القرارات المُجدية وتنفيذ الاصلاحات المطلوبة للحد من الانهيار. وعلى وقع توالي إضرابات القطاع المصرفي والتعليمي واستمرار إضراب موظفي القطاع العام، سقطت الليرة مجدداً اليوم في سقوط مدوّي هو الأقسى والأشد إيلاماً منذ أربع سنوات.
أربع سنوات من النزيف الحاد والانهيار المؤلم في حق الليرة اللبنانية التي ما تزال تدفع ثمن الخلافات والصراعات والتجاذبات السياسية، لا سيما بعد أن أصبح سعر صرفها أداة سياسية انتقامية بحتة بعيدة كل البعد عن المفهوم الاقتصادي وخارجة عن المنطق والقيود والإدارة السليمة. ومع الوصول إلى حاجز المئة ألف، بات بالإمكان القول أنّ لا حدود ولا سقوف بعد الآن أمام جنون الدولار، وأنّ باب الاحتمالات أصبح مشرعاً أمام قادم ربّما هو الأسوأ والأخطر على كل الأصعدة في ظل انعدام النية الصادقة في اتخاذ الاجراءات السياسية والاقتصادية العاجلة لإعادة الهدوء والتوازن إلى العملة الوطنية وتجنيبها المزيد والمزيد من التدهور والتقهقر….. فمن يُنقذ الليرة ويفكّ عنها قيود الحصار والانهيار؟