داود الصايغ – منذ البدء أدرك الفاتيكان أن لبنان هو نجمٌ أطلَّ من الشرق، من حيث مهدُ الدعواتِ كلّها. تَدرّجَ في ضمائر البابوات إلى حدِّ أن أصبح هو نفسه رسالة. حدث ذلك قبلَ أن ينقسمَ العالم، وأن تتصارع أنظمةُ الحكم، ويتحوّل الشرقُ نفسُهُ إلى عالمٍ من الثورات والثروات. فبقيَ لبنان وحده منذ نشأته مساحةً للحرية بالرغم من كلّ شيء. لبنان ذاك فَتحَ أمام الفاتيكان أبوابَ الآخر. فتجلّى ذلك في حركتِهِ شرقاً وغرباً، وفي تحركاتِ البابوات، حين اقتحم يوحنا بولس الثاني الشرقَ العربي ودخل العالمين العربي والإسلامي من البوابة اللبنانية التي أرشَدهُ إليها لبنان وبخاصةٍ في سنواتِ حروبهِ. وذلك قبل أن يُمهّدَ الطريقَ لمن خلفهُ للبابا بندكتوس وللبابا فرنسيس اللذين ولجا العالمين هذين من بعده بخاصةٍ عبر لقاءات #البابا فرنسيس مع شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيّب في الإمارات في شباط ٢٠١٩ وآية الله علي السيستاني في العراق في آذار ٢٠٢١.
لبنان كان ذلك النجم. يطوفُ بالضياءِ في سماءِ الشرق. أحبّه العالم وميّزه العرب المُخلصون الذين أدركوا خصوصيتهُ وانفتاحهِ وثراء تجربتهِ كما قالت القمة العربية في الدار البيضاء في أيار ١٩٨٩، ممهدةً لمؤتمرِ الطائف من خريف السنة ذاتِها.
كل نظرة الفاتيكان تُختصر بهذه الصورة. إنه مساحةُ حريّة وليس ساحةَ صراع. إنه ينابيعُ العطاء وليس مستودع الأسلحة. إنه موطنُ الوئام والتآلف وليس الشِقاق. إنه حرٌ وليس أسيرَ القيود. إنه بلد الآخر وليس طغيان الغَلَبَة.
وكما أدرك الفاتيكان باكراً جداً هوية هذا البلد الشرقي المُختلف كلّ الاختلاف عمّا هو حواليه، لم يغِب عنه أيضاً شروطَ حماية هذه التجربة، من الداخل أولاً في أهلية المؤتَمنين عليها، ومن الخارج القريبِ والبعيد في إبعاد الأيدي العابثة والطامعة.
قبل يوحنا بولس الثاني وبعده، أكان في الكرسي الرسولي أم في العالم كلّه، لم يصدر عن أحد ذلك التوصيف عن لبنان بين عامي ١٩٨٩ و١٩٩٠: “إنه رسالةُ حرية ونموذجٌ في التعددِ للشرقِ كما للغرب، وإنه أكثر من بلد، إنه رسالة.” إنّه رسالة للغربِ أيضاً وبخاصةٍ في محنةِ أوروبا اليوم مع المهاجرين، مع المهاجرين المسلمين حيث صعوبة الاندماج تواجه أَعرَقَ الديمقراطيات، وكما شهدنا منذ أيام الفاجعة التي حلّت بإحدى هذه العائلات في كندا. لم يقل أحدٌ ذلك. يعرفُ الفاتيكان أنَّ الأطماعَ أحاطت به: إنه جارٌ لإسرائيل التي دمّرت أكثر من مرّة، وليس فقط في جَنوبهِ، بُناه التحتية ووصلت إلى جسورِ كسروان والبقاع والشمال. وجارٌ لسوريا التي أدخلهُ نظامُها في مخططه العقائدي المُفتعل. فهو في التاريخ وفي الواقع، وُجد قبل هذين الكيانين، اللذين عامَلاه، واحدٌ من موقِع العداوة، والآخر من موقع التعبير الخادع الذي اسمُهُ “الأخوّة” ولا مجالَ هنا لأكثر من ذلك.
اللِقاء المرتقب بعد أيام مطلع الشهر القادم بين البابا فرنسيس ورؤساء #الطوائف المسيحية في لبنان هو لقاءُ العودةِ إلى الينابيع. لقاءُ المؤتمَنين على الروح، ما دام أنّ الروح ترتوي من النبعِ العالي، وما دام أنّ رجالَ الدين يُسمّون المسؤولين الروحيين. وها هو الكُرسي الرسولي اليوم يعود إلى لبنان عبر رؤساء طوائِفِه المسيحيين وذلك بعد وقتٍ قصير من لقائه رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري الذي من أجلِ لبنان، كما قال المسؤولون الفاتيكانيون، خرقوا العرف الذي يقول بأنّ البابا لا يستقبل سوى رؤساء الدول ورؤساء حكوماتِها الفعليين. فاستقبله وفقَ تقليدٍ كان قد ترسّخَ مع حركة والده الرئيس رفيق الحريري الذي كان أكثرَ مسؤولٍ التقى البابا يوحنا بولس الثاني عبرَ ستّة لقاءات، بعدما قال له في أوّلِ لقاءٍ بينهما في شهر نيسان ١٩٩٣: “أنتَ المسؤول”.
فلبنان هو أمرٌ آخر. إنه كان مختلفاً منذ البدء. وفي الوقت الذي لَقِيَ فيه على طول تاريخه الاستقلالي صعوبةٌ وعراقيل في علاقاته العربية والإقليمية، ولم يُدرك الكثيرون من أصحاب أنظمةِ الشمولِ والاستبداد قيمةَ هذا الاختلاف في الحرية والاختلاط، فإنّ الفاتيكان أدرك ذلك منذ البَدء. إنه عرَفَ أن هنالك بلداناً مسيحية عديدة، وبلداناً مسلمة عديدة، وبلداناً وربما قارّات تعيشُ على معتقداتٍ أخرى كما في الشرق الأقصى، وبخاصةٍ في الصين، في ذلك العالم الشاسع الذي يقفُ البابا فرنسيس اليوم على أُهبةِ زيارتِها بمجرّد أن يتلقى الدعوة.
جميع المؤمنين بهذه القِيم كانوا هنا. حجّوا إلى بوابة الشرق، بيروت المتلألئة التي كان بولس السادس أوّل بابا يتوقّف فيها عام ١٩٦٤ في مطار بيروت.
——————————————
“ماذا قال حافظ الأسد لموفدي البابا في آذار 1986” ؟
——————————————
ولكن قبل بولس السادس كان الكاردينال “رونكالي” يوحنا الثالث والعشرون بعد ذلك قد زار لبنان عام ١٩٥٤ في المؤتمر المريمي وتحدّث عن لبنان.
والمجال لا يتّسع هنا لاستعراض كل تاريخ العلاقة بين لبنان والكرسي الرسولي ولكن لبنان اتخذ حيّزاً كبيراً في اهتماماتِ ومشاغل البابا القديس يوحنا بولس الثاني الذي وَصل إلى السدّة البابوية في ١٦ تشرين الأول ١٩٧٨، وكانت حروب لبنان مشتعلة. فرافق المراحل كلّها متألّماً وساعياً لإيجاد الحلّ مع العواصم الفاعلة وبخاصةٍ مع باريس وإلى حدّ توتّر العلاقة مع واشنطن وسياسة “حصر النار وليس إطفائها” وفقَ سياسة هنري كسينجر اللبنانية، التي حاول البابا التمرّد عليها.
والآن يتساءل العديد من اللبنانيين: ماذا سيفعل الفاتيكان؟ ماذا بإمكانه أن يفعل؟
لعلّ أبناء الجيل اللبناني الجديد الذي لا يتذكّر زيارة يوحنا بولس الثاني إلى لبنان في أيار ١٩٩٧ ونَشرهِ الإرشاد الرسولي بعد السينودس الخاص بلبنان عام ١٩٩٥ لا يزالون يحفظون صورة زيارة البابا فرنسيس إلى العراق في آذار الماضي. هذا هو البابا. هذا هو الفاتيكان. هذا هو الكرسي الرسولي. وهذا ما بإمكانهِ أن يفعل، حضوره هو الفعل الأساسي. إنه خليفة القديس بطرس بكلّ ما تحمله الكنيسة الكاثوليكية من مراحل على طول تاريخها على أكثر من ألفي عام. إنه المرجعية المعنوية الأولى في العالم. ولعلّ البعض لم ينسوا بعد تلك الصورة التاريخية التي تُمثّل رؤساء أميركا بيل كلينتون وجورج بوش الأب وجورج بوش الابن جاثين أمام جثمانه بمناسبة تشييعه عام ٢٠٠٥.
إنه ليس دولة بالمعنى التقليدي، ولكنه دولة من نوعٍ فريد لأنها تقوم ضمن مدينة روما على مساحة تبلغ ٠,٤٤ كلم٢ أي ٤٤ هكتاراً وهي بالتالي أصغر دولة في العالم. فاسم “دولة حاضرة الفاتيكان” يعني المباني التي تقوم عليها إدارة الدولة السيّدة. ولكن الاسم الرسمي هو “الكرسي الرسولي” الذي يعني البابا والذين يعاونونه في مهامه. فالسفراء الأجانب معتمدون لدى الكرسي الرسولي. وإنّ سَرد الوصول إلى هذا الوضع القانوني للفاتيكان يدخل في التاريخ .
ماذا بإمكان الفاتيكان أن يفعل. إنّ البابا يرأس كنيسة تضمّ أكثر من مليار وثلاثمائة مليون نسمة في العالم. وهي كنيسة تراتبية أي أنها منتظمة داخل هيكلية بين رئيسٍ ورؤساء ومن هم أدنى رتبة ومسؤولية. وهي بذلك تختلف عن الكنائس الأخرى الأرثوذكسية منها والإنجيلية والأنغليكانية. فضلاً عن أنها دولة تعتمد السفراء وتُرسل السفراء والبابا بالتالي، بالإضافة إلى سفرائه المعتمدين في الدول التي له معها تمثيلٌ دبلوماسي، فإنه يعيّن جميع كرادلة وأساقفة العالم في أميركا كلّها الشمالية والجنوبية وأوروبا وآسيا وأفريقيا والشرق. فلدى الكرسي الرسولي بالتالي وسائل عمل. وسائل عمل دبلوماسية ومعنوية. وإنه المرجعية الوحيدة في العالم التي تتعامل مع القضايا والأزمات والنزاعات بدون أيّ مصلحة خاصة، في ما عدا مصلحة الانسان وقِيَمِه. من هنا قوّة دورها ولكن محدوديّته أيضاً. والكثيرون يعرفون قولَ ستالين عندما حدّثوه عن الفاتيكان إذ قال: كم فرقة عسكرية لديه؟
البابا يوحنا بولس الثاني حاول في سنوات الحروب أن يفعل. فوُضع مشروعٌ للحلّ عام ١٩٨٦ حمله المونسنيور أشيل سلفستريني ثمّ عبر مهمّاتٍ سابقة ولاحقة للكرادلة والموفدين مثل الكاردينال باولو برتولي والكاردينال روجيه إتشيغاراي والأب سيلستينو بوهيغاز في جزين.
ولكن في هذا المجال، في مجال محدودية الدور إزاء المصالح والطموحات السياسية، أراد موفدا الفاتيكان يومذاك المونسنيور سلفستريني (الذي أصبح كاردينالاً) والمونسنيور لويجي غاتي (الذي أصبح سفيراً في لبنان) مقابلة الرئيس حافظ الأسد في شهر آذار ١٩٨٦ للبحث معه في مشروع الفاتيكان للحلّ والذي كان ينطوي على انسحاب جميع القوى العسكرية من لبنان أي الإسرائيلية والسورية. فعندما اجتمعا به في موعدٍ خاصٍ يومذاك استهلّ حديثه معهما بقوله: “إنّكما جئتما بهذه المهمّة لمحاولة التوفيق بين اللبنانيين. وهذا ما نفعله نحن منذ ثلاثة عشر عاماً.” وروى السفير لويجي غاتي الحادثة بقوله: إنّه أقفل الباب. بما معناه إذا أردتُما أن تتحدثا معي بصفتي موفِّقاً بين اللبنانيين فأنا حاضر لكني لستُ طرفاً. وفهم الدبلوماسيان المنتميان إلى أعرق المدارس الدبلوماسية في العالم أنّ البابَ قد أُغلقَ أمام هذه المهمّة، وانتهى الاجتماع بعد دقائق معدودة.
الفاتيكان لا يضع الحلول للنزاعات. إنّه ليس طرفاً. ليس طرفاً بالتحديد في نزاعات المنطقة حالياً. إنّ المسؤولين فيه يستمعون، يُوجّهون، يجرون الاتصالات، يحاولون التقريب بين وجهات النظر، وفي بعض الأحيان يقومون بالوساطات كما حصل في بعض دول أميركا اللاتينية حيث ينتمي الجميع إلى الكثلكة. ولكن في محاولة الإجابة على سؤالٍ بديهي: هل تمكّن الفاتيكان مثلاً من أن يوفّقَ في لبنان بين الفريقين المسيحيين اللبنانيين اللذين يتصارعان منذ أكثر من ثلاثين عاماً؟
لعلّ في عدم الجواب جواباً على الدور. الفاتيكان يؤدي دور الرسالة لمن يريد أن يسمع. دور الوسيط لمن يطلب إليه ذلك. دور المُرشد لمن يريدُ أن يَستنير بإرشاده. دور الصديق حيث ما كان هنالك مكانٌ للصداقة في عالم اليوم.
في لبنان، لبنان الحالي، المقيّد بسلاسل المحاور، أرضُ الحرية والسلام والعطاء والتنوّع، التي تحوّلت إلى ساحةٍ للصراعات المسلّحة، هل بمستطاع الفاتيكان مثلاً أن يضغط باتجاه تحييد لبنان؟
بالطبع بمستطاعه ذلك. ولكن ليس وحده. بإمكانه أن يصبح رافعةً لهذا المطلب المشروع الذي يمثّل بالتأكيد قضيةً للكرسي الرسولي، لحماية هذا الوطن الرسالة وهو المطلب الذي رفعهُ البطريرك بشارة الراعي. ولكن كيف ما دامت بعض الأبواب الداخلية مقفلةٌ أمام هذا المطلب المشروع من قبل أكثرية اللبنانيين.
لا غِنى للبنان عن الفاتيكان. عن هذه المرجعية الكبرى في العالم. عن هذا التاريخ الذي انفتح لبنان عبره على الغرب والحداثة. لأن العلاقة مع الفاتيكان حتى منذ ما قبل الاستقلال كانت بوابة لبنان أمام الغرب.
يكفي أن نسترجع ذلك المشهد الذي يعبّر عن نفسه بدون أيّ كلام. إنّه اليوم الأخير للسينودس المنعقد من أجل لبنان في ١٤ كانون الأول ١٩٩٥ والبابا يوحنا بولس الثاني يُشارك المجتمعين في حفل غذاءٍ وداعي. وإذا به في وسط الغذاء يقول بصوتٍ مرتفع: “قبل اليوم كنتُ لبنانياً بصورة عاطفية، أمّا اليوم فإني لبنانيٌ بصورةٍ فعلية”.
المصدر: النهار