منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على لبنان، تجلى بشكلٍ صارخ غياب دور مثقفين وأساتذة جامعيين بارزين في الدفاع عن حرية الصحافة وحماية الصحافيين الذين يتعرضون للتهديدات والاعتداءات من قبل حزب الله.
وعلى الرغم من أن هؤلاء الأكاديميين يرفعون شعارات حماية الحريات العامة وحرية الرأي والتعبير، إلا أن صمتهم المطبق أمام ما تعرض له الصحافيون من تضييق وتهديدات يثير أكثر من تساؤل.
فهل كان غيابهم مجرد تراجع عن المسؤولية الأخلاقية؟
أم أن وراءه حسابات سياسية شخصية أو ضغوطات خفية؟
ومن يتحمل مسؤولية هذا التخاذل الخطير؟
حفلت الأسابيع الماضية بتعرض العديد من الصحافيين والإعلاميين اللبنانيين لتهديدات مباشرة من قبل حزب الله وتم منع العديد منهم من تغطية الأحداث أو نشر تقارير تتعارض مع الرواية التي يروج لها الحزب ليصل الأمر إلى الاعتداءات الجسدية على الصحافيين.
وبينما كان يُنتظر من المثقفين وأساتذة الإعلام الذين يتصدرون المنابر الأكاديمية والنقاشات العامة أن يكونوا في الصفوف الأمامية للدفاع عن حرية الصحافة، فإنهم اختاروا التزام الصمت المريب.
لم نسمع تعليقاً حازماً، ولا انتقاداً علنياً للقيود المفروضة على الصحافيين.
لم يتحرك أي صوت أكاديمي بارز ليقف إلى جانب الصحافيين الذين تم تهديدهم، سواء في وسائل الإعلام أو عبر المنابر الجامعية وكأن حرية التعبير ليست جزءاً من مناهجهم الأكاديمية، أو أن مبادئهم لا تساوي شيئاً أمام التهديدات التي قد تلاحقهم.
لم يكن غياب ردود الفعل من جانب المثقفين والأساتذة الجامعيين في لبنان -خصوصاً في مجال الإعلام- مجرد صدفة، بل عكس حالة من التخاذل الأخلاقي الذي يساهم في تقويض أسس الديمقراطية والحريات في لبنان.
قد يخشى البعض من فقدان مواقعهم الأكاديمية أو المهنية في حال خالفوا المواقف السياسية السائدة، لا سيما في ظل تأثير الأحزاب السياسية على التعيينات الجامعية وعلى ميزانيات المؤسسات الإعلامية.
أما البعض الآخر فقد يكون قد اختار الصمت درءاً لمتاعب مكلفة خاصة في ظل الاستقطاب الحاد الذي يعصف بالبلاد، حيث يصبح أي موقف معلن مخالف للسلطة السياسية أو المسيطرة عسكريا بمثابة إعلان حرب قد يكلف صاحبه غالياً.
هذا التناقض بين الخطاب الأكاديمي والمواقف السياسية يظهر أن هناك فصلًا بين المبادئ التي يُفترض أن يتبناها المثقفون، وبين الواقع السياسي الذي يجعلهم يفضلون البقاء في الصفوف الخلفية.
فالحديث عن المثقفين في لبنان لا يمكن أن يكون كاملاً دون الإشارة إلى قدرتهم على التأثير في الرأي العام، خصوصاً في أوقات الحرب أو الأزمات الوطنية.
لماذا هذا الغياب؟
لأن الأضواء التي ترافق التظاهرات العامة أو الخطابات التي لا تحمل أي مخاطرة، أكثر جاذبية من لحظات الحقيقة، التي تتطلب منهم تحمّل مسؤولية نقدية علنية ووقوفاً إلى جانب الصحافيين الذين يواجهون خطر الاعتقال أو الاعتداء.
غياب المثقفين في هذه اللحظات الحرجة يكشف مع الأسف عن تفضيلهم للمواقف التي لا تكلفهم شيئاً، والتي تعطيهم فرصة للظهور دون أي مساءلة. ولكن في اللحظات التي يتم فيها تهديد الصحافيين والإعلاميين، ويتعرضون للاعتداءات التي لا يمكن السكوت عنها، يختفي هؤلاء المثقفون، سواء خوفاً من ردود فعل السلطة أو تجنباً لإغضاب الحلفاء السياسيين.
ما يحدث اليوم من سكوت أكاديمي في ظل تهديد الصحافيين هو لحظة فارقة تتطلب محاسبة حقيقية من الطلاب والأجيال الجديدة في مجال الإعلام!
فالأكاديميون الذين يفترض أن يكونوا حراساً للحريات العامة والمبادئ المهنية، قد أهدروا فرصة التأكيد على مصداقيتهم في مواجهة التحديات الكبرى.
على “مثقفي الغفلة والظهور والانفصام” أن يتذكروا أن دورهم لا يقتصر على التدريس أو البحث الأكاديمي فقط، بل يمتد إلى المشاركة الفاعلة في القضايا المجتمعية والسياسية الكبرى، وعلى رأسها حماية حرية الصحافة والتعبير.
وإغفال هذه المسؤولية ليس فقط نقصاً في الالتزام المهني، بل تراجعاً خطيراً في ضمان الحريات الأساسية التي تشكل حجر الزاوية لأي مجتمع حر ومتقدم!