
قُلْتُم عنها ثورة…
قُلْتُم عنها انتفاضة…
قُلْتُم عنها فورة، ليس مهمًّا ما أسميتُم.
قُلْتُم عنهم نوّاب التّغيير… قُلْتُم عنهم نوّاب التّعتير… قُلْتُم عنهم نوّاب النّكبة والإلحاد والسّفارات، وأمعنتم بالتّخوين… لا يهمّ…
الحربُ أتَتْ وأصواتُكم في إعلاءِ شأن المحاور على بلدكم نَحَرَت بيوتَكم وأحوالَكم وأرزاقَكم، بل إنَّ تلبياتِكم (من لبيك) ومناصرةَ آلهتِكم قَتَلَت أبناءَكم وهجَّرت أحلامَكم واستقرارَكم.
فلْتقولوا ما تقولوا… وأجل، أخطأنا كبشر أمام آلهة الحكم وعبَّادِها… تفرَّقنا أو أسهموا في تفريقنا… أجل، لم تكن كلمتنا واحدة، وضعنا الأنَا قبل الجماعة، ولكنكم تناسيتُم أننا بشرٌ لا آلهة، أبناءُ وطن نحبُو بين قروش مفترسة، افترست دماءَكم وأموالَكم وأرواحَكم في أكثر من مفترق ومرحلة وكارثة.
أجل، أخطأنا أو تقاذفنا وقذفْنا بعضنا بفعل غبائنا أو بفعل منظومة أخطبوط، لكننا لم نُجرِم، لم نقتل، لم نسرق.
بل افترشنا الساحات من أجل وطنٍ نريده لنا معافًى، لا كما يفترشُه أهلُنا اليوم للأسف على أنقاضه محطَّمًا.
افترشنا المجلس مطالبين بالدستور ودولة القانون وعمل المؤسّسات، لا افترسناه ركامًا بأضغاث أسنانٍ وأبخس الأثمان.
ومع خطئنا في الأسلوب بين بعضنا، كان كلٌّ منَّا يدافع عن الحقِّ والمبدأ بطريقته، يدحض الباطل بلسانه، وينهى عن النّهب بلجانه.
أمام مَن؟!!! أمام نائبٍ أشرسَ أبطشَ أو أمام جورٍ صامتٍ خانعٍ أخرسَ.
هذا ما فعلناه في الساحات وفي المجالس، وبيننا اثنان أو أقلُّ يُصرِّفان الأعمال بما أتاهما الله من عزيمةٍ وقوّةٍ أمام فساد الوزارات والنفوس وكل ما أُحيط بهم ولفَّ حولهم.
تُطالبون بالمستحيل ومعاكسة ديمومة حياتنا السّياسية التي صنعتموها أنتم بمناصرتِكم واستمرار جهلِكم وتنصيبِكم المجرمين علينا، ماذا فعلنا أمام أفعالِهم وأفعالِكم!!!
ناضلنا، أجل، ناضلنا رغم تشتُّتنا، ناضلنا رغم ضعف قدراتِنا، ناضلنا رغم استهدافاتِكم الكلامية وخناجركم المذهبية وتخويناتِكم السلوكية والدينية والوطنية.
لا أدَّعي التشريف، ولكننا نسعى ونحاول ونجدُّ بلا قطرة دماءٍ على ثيابنا ولا لقمة حرام في بطوننا… “اللهم إلا ما لا أعلم”.
أتكلّم عن كل رفيق وضعت يدي في يده، عن كل فكرٍ اتفقت معه أو عارضته في الأسلوب والموقف وكنا سويًّا في النهج والمسار. أتكلّم عن صدق الصادق، لا تصديق المنافق، عن تعبِي وتعب الرفاق طيلة السنوات الماضية في حروب صغيرة ضمن البيت الواحد لإعلاء المبادئ والمواطنة الحقّة.
لا، أنا لا أتكلم عن مدينتي الفاضلة كما يردد أصدقائي عليّ، أنا أتحدث عن عمل وجدّ رأيتُه فيَّ ومن قلّة حولي.
وربَّ قلّةٍ غلبت كثرةً بالصبر والسعي واليقين بالله… الذي لا يُضيِّع مثقال ذرةٍ في الأرض ولا في السماء.
في ذكرى ١٧ تشرين؛
لنتعلم الدرس المستفاد بعد كل هذه المصائب والنكبات… فنحن اليوم بعد الحرب أمام رؤيتين لا ثالث لهما، رؤيتين متناقضتين لوطن السلم ولكيفية إدارة الدولة الحلم، وما يتبع ذلك من سياسات وخطط إن بقي لنا ترابًا وحقولًا وشبابًا.
نحن اليوم أمام منظومة قيمٍ تلغي منظومة الترّكة السياسية وتضع المواطنة في وجه الطائفية، والكفاءة في وجه الزبائنية، والعدالة في وجه الاستقواء، والمساواة في وجه الطبقية والتمييز، والديمقراطية في وجه الاستئثار.
ليس أمامنا اليوم بعد انقضاء هذه الحرب إلا بناء هذا “المجتمع النقيض”، المجتمع الذي يناقض جماعات السلطة بكل مآربهم وغنائمهم وأغنامهم.
بالله عليكم كفانا… كفانا تسليمًا أو استهتارًا أو “قلّ ربي نفسي والسّلام”.
كفانا… بالله عليكم كفانا… فلا بديل عن وطنٍ سنبكي ترابه حبّةً حبّة إن خسرناه طمعًا وعمالةً وكراهيةً وتخوينًا.
في ذكرى ١٧ تشرين؛
أشعر اليوم، تمامًا كما الشهور الأولى لها، وجعًا يصيبني حدّ العظام، ورجفةَ الشفاء من سُمّ الآثام، فكم موجعٌ أن تخلع جلدك بأظافرك!!! وكم مؤلمٌ الصراع الداخلي الذي يعاكس ما تربيتَ عليه وتشرّبته…
وحبذا… حبذا لو تشعرون بهذا الألم معي بعد حرب التوسع والمطامع بنا لنعود شرنقةً تعاني لتخرج كفراشةٍ محلقةٍ متعافيةٍ اسمها “المواطنة”.
حبذا لو تخلعون جلودكم التي اعتادت على الفساد والتجاوزات وخطابات الكراهية، حبذا لو تخلعون عنكم -سني بيروتي، شيعي جنوبي، ماروني متني، أرثوذكسي بقاعي، درزي جبلي، علوي شمالي، إلخ…- مذهبيّتكم ومناطقيّتكم وتكتلاتكم ومنطقكم قبل أن يحرقها جميعها الصهيوني والإيراني وكل طامعٍ بأرضنا وعرضنا وشعبنا.
حبذا لو تتألمون من المنطق وصوت الضمير ليتطهّر الدم الفاسد فيكم ويخرج من عروقكم ويعاكس ما نشأتم عليه بين أهلكم وناسكم، حبذا لو تعاندون كل صدى وطرق لتبرير أفعالهم وتسوياتهم وغنائميتهم.
في ذكرى ١٧ تشرين؛
قولوا عنّا ما شئتم، هدموا ما آمنّا به ما استطعتم، تهكموا علينا بما أعانتكم عليه ألسنتكم، لكن الحق والخير صنوان لا يفترقان وإن خسرنا جميعًا يا أبناء وطني… لبنان.