بعد أعوام تمّ فيها انتهاج سياسات نقديّة ارتكزت على مبدأ تثبيت سعر صرف العملة الوطنية على 1507 ليرة لبنانية مقابل الدولار الاميركي، فاجأ وزير الماليّة يوسف خليل عبر تصريح إعلامي عابر بأنّ “سعر الصرف الرسمي سوف يصبح 15 ألف ليرة”. التصريح الذي اعتبره الوزير خطوة نحو توحيد سعر الصرف في لبنان، أثار الكثير من الاستغراب والبلبلة في نفوس اللبنانيين وانعكس فوضى عارمة في أسعار السلع في الأسواق، لا سيّما مع استمرار تصاعد الدولار وملامسته عتبة الـ 40 ألف ليرة للدولار الواحد.
القرار المُباغت جاء عقب إقرار موازنة 2022 واعتماد سعر 15 ألف ليرة للدولار الجمركي، فالإبقاء على السعر القديم بات مستحيلاً وعبئاً على كاهل الدولة التي أثبتت كامل عجزها عن لجم التدهور الحاد في سعر الصرف مما كبّدها خسائر فادحة جعلتها غير قادرة على تأمين وارداتها وتغطية نفقاتها. هذا بالإضافة طبعاً إلى تلبية أحد شروط صندوق الدولي المسبقة بتوحيد سعر الصرف من أجل المضي قدماً في خطّة التعافي المالي والنقدي والحصول على المساعدات الكفيلة بمعالجة الوضع الاقتصادي المشلول. إذاً، عشرة أضعاف دفعة واحدة دون تمهيد الطريق أو اتخاذ أيّ تدابير احترازيّة لاحتواء تردّدات وانعكاسات هكذا قرار على حياة اللبنانيين اليوميّة في ظلّ أزمة متشعّبة أنهكت قدرتهم الشرائية واستنزفت الليرة والاقتصاد اللبناني على مدى ثلاثة أعوام متتالية.
دولار الـ15000 سوف يُفرض على حزمة واسعة من السلع والبضائع المستوردة التي تدفع رسوماً جمركية فقط، فضلاً عن فرض رسم جمركي آخر بقيمة 10 في المئة، على جميع السلع والبضائع التي يتم استيرادها ويُصنّع مثلها في لبنان، كما على تلك المصنّفة بالسلع والبضائع الفاخرة. الأمر هذا يعني ارتفاعاً في هذه الرسوم وتحليقاً إضافياً في الأسعار ومزيداً من موجات الغلاء الفاحشة التي ستطال كافة السلع الاستهلاكية دون أي تمييز في ظل غياب كافة أساليب الرقابة والمحاسبة لضبط التفلّت الحاصل في الأسواق. وبالتالي، فإنّ تطبيق هذا القرار على أرض الواقع سوف يساهم في زيادة معدلات التضخم التي وصلت إلى 240 في المئة وفق أحدث التقارير الصادرة عن البنك الدولي والذي أشار إلى أنّ لبنان احتلّ المرتبة الثانية عالمياً على مؤشر تضخم أسعار الغذاء بعد أن سجّل أعلى مستويات للتضخم في أسعار السلع والمواد الغذائية في العالم.
نِسب التضخم المُرعبة وارتفاع الأسعار المُخيف واستغلال تجّار الأزمة لهذه الفوضى الجارفة، حيث هرعوا إلى تغيير كافة أسعار السلع حتى تلك المُستثناة من الرسم الجمركي ، قابلها تعميم صادر من وزير الاقتصاد والتجارة في حكومة تصريف الأعمال أمين سلام يتعلّق بمكافحة ارتفاع اسعار السلع نتيجة لارتفاع سعر الدولار الجمركي، ويمنع فيه استغلاله من قبل بعض التجار لزيادة الاسعار وتحقيق أرباح غير مشروعة محذّراً إيّاهم من اللجوء إلى تعديل أسعار مبيع السلع للمستهلكين لتلك التي تم استيرادها واستوفيت رسومها الجمركية على الـ1500، واعداَ بضبط المخالفات تمهيداً لإحالتها أمام القضاء المختص.
وعلى الرغم من تعاميم وزارة الإقتصاد التطمينيّة، إلّا أنّ تجارب لبنان مع فوضى التسعير وعشوائيّته برهنت عدم جدوى هذه البيانات في القضاء على وباء الغلاء. فمنذ بداية الأزمة في خريف عام ٢١٠٩ وأجهزة الرقابة ومكافحة غلاء الأسعار لم تنجح يوماً في وضع آليّة تسعير واضحة تردع جشع التجار وتحدّ من تفلّت الأسعار التي تتفاوت نِسبها بين متجر وآخر ومنطقة وأخرى وفق مزاج كل تاجر دون حسيب أو رقيب. فهل ستنجح اليوم في الهيمنة على أسعار السلع أم أنّ جرائم التسعير في حق المواطنين ستبقى على حالها سواء كان سعر الصرف الرسمي المُعتمد 1500 ليرة أو 15000 ليرة؟