كَثُرت في الآونة الأخيرة عمليّات اقتحام المصارف في لبنان بعد أن ضاق الخناق ذرعاً بالمواطنين العاجزين عن الحصول على ودائعهم المحجوزة، ليُصبح استخدام السلاح والقوّة هو الكلمة الفصل لاسترجاع حقوقهم المسلوبة مع فشل كل الوسائل الدستورية والشرعية والأخلاقيّة وامتناع المصارف عن إعادة أموالهم؛ في سابقة تُعدّ الأخطر والأعنف من مسلسل التفلّت الأمني . وفي ظل التمادي في ممارسة سياسة عدم الاكتراث واللامبالاة، يزداد الخوف من توسّع هذه الظاهرة لتُصيب عدواها مختلف القطاعات والمؤسسات في كافة أرجاء الأراضي اللبنانية.
منذ اندلاع الأزمة خريف العام 2019، واللبنانيون يتعرضون يوميّاً إلى أبشع وأقسى جريمة نهب ودائعهم نتيجة فرض المصارف قيوداً مشدّدة على سحبها، حتى بات تحصيل ما تبقى من فتات أموالهم مصحوباً بشتى انواع القهر والذل على أبوابها. وأمام هذا الواقع المأساوي، لا أحد حرّك ساكناً وانعدمت كل القرارات العادلة التي من شأنها أن تمتصّ غضب ونقمة المواطنين على المصارف الذين يحمّلونها مسؤولية تبخر جنى أعمارهم أمام أعينهم. لا بل عمد الجميع إلى تضييع الوقت من خلال تبادل الاتهامات وتقاذف الكرات، حتى وصل الأمر في نهاية المطاف إلى تحميل المودعين جزءاً لا يُستهان به من خسائر الأزمة المالية وكأنه لا يكفيهم انخفاض قدرتهم الشرائية وقيمة رواتبهم واضمحلال قدرتهم على الصمود والبقاء؛ ليصبحوا هم أكبر الخاسرين.
ومع استفحال شدّة الأزمة ورفع الدعم عن البنزين والتحليق الهستيري للدولار، بلغت عمليات الاقتحام ذروتها يوم أمس متنقّلة من مصرف إلى أخر، ممّا دفع جمعية المصارف في لبنان إلى إصدار بيان عاجل أعلنت فيه إقفال المصارف أيام ١٩ و٢٠ و٢١ أيلول استنكاراً وشجباً لما حصل وبغية اتخاذ التدابير التنظيمية اللازمة، على أن يعود مجلس الإدارة إلى الاجتماع في مطلع الأسبوع القادم للنظر بشأن الخطوات التالية. هذا وقد اعتذرت من كافة المودعين عن أي إزعاج أو تأخير قد ينتج عن هذا الإقفال، كون سلامة موظفيها وزبائنها تأتي في رأس الأولويات التي تضعها المصارف نصب أعينها إضافة إلى مصالح المودعين التي تحاول تأمينها بقدر المستطاع في الظروف الحالية الصعبة التي تمر بها البلاد.
الجمعية وفق بيانها لن تقبل بعد اليوم أن تكون مكسر عصا ومن حقها اتخاذ جميع التدابير والخطوات اللازمة التي تراها مناسبة لحماية مصارفها وطاقمها من أي تهديد أو اعتداء. في المقابل، المواطنون يرفضون تحويلهم إلى كبش فداء ويُصرّون على حقّهم المشروع في الحصول على كامل ودائعهم وأموالهم دون أية قيود. وفي ظل هذا الصراع القائم بين المصارف والمودعين، يُكمل الدولار مساره التصاعدي وتستعرّ الفوضى العارمة على الأرض وكأنّ أياد خفيّة تعمل على إضرام النار فيها وتهيئ المناخ الملائم لاشتعالها. فأين هم المسؤولون الغائبون عن السمع والنظر أمام هول ما يحدث؟ ومن يحرّك فتيل الشارع ولمصلحة من التغاضي الدائم عن كل ما يهدّد الاستقرار والسلم الأهلي ؟ ألم يَحن الأوان بعد للحدّ من خطورة هذا الانفلات والإمساك بزمام الأمور؟
بناءً على معطيات الأيام القادمة، قد تُعاود المصارف فتح أبوابها الخميس المقبل مع خشيتها من حدوث المزيد من عمليات اقتحام المودعين لها من أجل سحب ودائعهم. لذلك، لا بدّ أن تترافق هذه العودة بتوفير الحماية الأمنيّة اللازمة واتخاذ أقصى تدابير الحيطة والحذر لأن ما يجري في المصارف من هرج ومرج يدقّ ناقوس الخطر ويُنذر بالأسوأ على كل الأصعدة وبالكثير من الفوضى القادمة التي لا تُحمد عقباها والتي لن يدفع ثمنها سوى المواطن.
حتى اليوم، الكارثة لم تقع والدماء لم تسل إلاّ أنّ القنبلة موقوتة وهي مهدّدة بالانفجار في وقت لا ينفع فيه أيّ ندم.