ياسر حسين – صحيح انه و بالشكل، فلقد وضعت الحرب الأهلية اللبنانية اوزارها منذ زمن ليس بالقليل.. غير ان نهاية الحروب الأهلية لا تقاس فقط بوقف الأعمال الحربية الداخلية، بل تتخطى ذلك الى ضرورة إزالة آثار هذه الحرب من نفوس المواطنين و من ادبياتهم ايضا، وصولا الى إزالة متاريسهم و خنادقهم “الذهنية” كمعبر اساسي للمصالحة و إنجازا للانصهار الوطني المطلوب..
ولقد أتت الانتخابات الاخيرة (و لا سيما عبر لوائح التغيير بشكل خاص) لتسجل نجاحا و خرقا كبيرا في إزالة تلك الدشم الفكرية و الموروثات العبثية المقيدة، فلأول مرة، شعر الكثيرون بفائض من الوعي لدى الناخب اللبناني الذي نجح باختراق خطوط تماس قبلية، كما لوحظ و لأول مرة من زمن بعيد، عن وجود دينامية جديدة تجلت في اقبال الشباب على وجه الخصوص على التسجيل اولا و لاحقا على الانتخاب.. هذا الوعي المتقدم للناخبين (لا سيما التغييريين منهم) شكل دافعا للمواطن الدرزي على سبيل المثال كي يكسر “التابوه” الخاص به بانتخابه مرشحا مسيحيا في الجبل (و العكس صحيح ايضا)
و هذا يعد انجازا وطنيا كبيرا قبل أن يكون انجازا انتخابيا، كما رأينا ايضا إنجازا اخر تمثل في كسر الناخب الحزبي التقليدي لقيوده عبر خروجه عن “إجماع” عائلي و وحزبي عمره عشرات الأعوام، لينتخب تغييريين لا يعرفهم و لم يرهم من قبل، كما لا يعرف أي شيء عن ماضيهم او برامجهم او فكرهم، و هي ظاهرة يجب التوقف عندها مليا.. ولقد كان النائب التغييري مارك ضو سباقا وصريحا في تسجيل استغرابه لهذه الظاهرة الفريدة لانه كما قال “كل ما عملناه كتغييريين في الشوف هو اننا أعلنا ترشحنا.. ولم يتسن لنا فعلا الحديث عن برامجنا او شرح أفكارنا بالعمق، انما بوغتنا جميعا بحجم الاحتضان الشعبي الجارف.. و كان ما كان” ولم يترك التغييريون في الحقيقة مجالا لباقي اللوائح، من المعارضة كانت او من الموالاة، لخوض مبارزة شريفة عبر استعراض و مفاضلة البرامج الانتخابية بينهم، بل على العكس، فقد أنتهت العديد من “المباريات” الانتخابية بشوطها الاول، لا سيما تلك التي أجريت ببلاد الاغتراب، دون ان يعني ذلك بالضرورة ان بعض تلك اللوائح المعارضة لا يحمل ايضا هموم الوطن و المواطن و يتشارك حتى مع التغييريين في نظرتهم لبناء الدولة و تطوير النظام..
ويسجل للتغييريين انهم اتوا بإنجاز كبير من اليوم الاول و من دون أن يخططوا لذلك فعلا : فالطريقة التي خاضوا بها الانتخابات قد افرزت تسابقا حماسيا اثمر انصهارا وطنيا لم نشهده من قبل.. و قد أعلن هذا الأنصهار المفاجئ – و بالصوت و الصورة – انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية بطريقة مشهدية مؤثرة كان يتوق إليها اللبنانيون لختم جرحهم، و تجلى ذلك عبر عرس شعبي متعدد الألوان و المشارب.. و هكذا، نشأت نواة كتلة نيابية جديدة عابرة للمناطق و الطوائف، باتت تهدد ليس فقط الاحزاب اللبنانية العريقة، إنما دكت ايضا – وبدون إنذار سابق – عروش الشيوخ و الاقطاعيين و البكاوات، و أعطت زخما كبيرا للحياة السياسية اللبنانية بطريقة لم نشهدها من قبل. ينبغي الإشارة هنا ان التصويت باتجاه لوائح التغيير لم يكن تصويتا “عقابيا” للمنظومة الحاكمة فحسب، إنما أتى ايضا تصويتا “اعتذاريا” و صحوة ضمير متأخرة و نوعا من المصالحة مع الذات للكثيرين الذين تحولوا باصوات هم من ضفة إلى اخرى دون الحاجة للخوض و التدقيق في برامج اولئك التغييريين.. يبقى انه من أهم الدروس التي تم تسجيلها في هذه الانتخابات هو ان البذخ التسويقي بانتاج الافلام او بالاعلانات و البرامج الحوارية المدفوعة او باليافطات او “البانويات” لم يكن له تأثير يذكر أمام ارادة الناخب التغييري الحر، او أمام البلوكات الموجهة من الماكينات الانتخابية الكبرى..
و من الضروري ان نسجل قصورا مقلقا يجب التنبه له و معالجته مستقبلا الا وهو التشرذم، إذ ان هذه الانتخابات افرزت للاسف وجود ثلاثة أصناف من التغييريين، شارك اثنان منهم فقط في هذه الانتخابات و نافسا بعضهما البعض و هما “التغييريون الأوائل” (كبيروت مدينتي و مجموعات قادرين/ممفد و غيرها من المجموعات التغييرية الصادقة الاخرى) ، و”التغييريون الجدد” الأكثر تمويلا و تنظيما و امتدادا، في حين اختارت “قوى التغيير الثالثة ” عدم المغامرة بهذه المعركة رغبة منها بعدم تشتيت الأصوات اكثر مما هو حاصل فعلا.. و قد نجح فعلا “التغييريون الاوائل” بتحقيق ٥٢٥٠٠ صوتا على صعيد لبنان، الا انهم لم يوفقوا بالحصول على اي حاصل، تماما كما فشل حوالي ٦٠٠ الف ناخب من كل اللوائح من تحقيق اي حاصل بدورهم ايضا و بالتالي، عجزت هذه المجموعات – ظلما – عن اختيار مرشحيها إلى الندوة البرلمانية.. وتلك أمور ينبغي معالجتها من خلال تعديل قانون الانتخاب الحالي باقرب فرصة.. كما تم تسجيل قصور خطير آخر تجلى بان “التغييريين الجدد” ممن وفقوا بدخول الندوة البرلمانية لم يكونوا كلهم “منقايين عالطبلية” كما كان الكل يتمنى و يحلم.. فللاسف، فقد شابت عملية تشكيل اللوايح التغييرية نفسها الكثير من الاتهامات، وصولا إلى حد إقصاء “التغييريين الجدد” لبعضهم البعض في “مفاوضات دموية” تمهيدية في بعض المناطق ، و قد كان دايفيد شنكر نفسه سباقا إلى التحذير من َتلك الظاهرة و من نرجسية البعض، لا سيما في إدارة و استيعاب رسالة التغيير وتضحياتها.. و لا تنتهي التحديات هنا انما تمتد الى نواح أخرى تتعلق بنوعية و معايير المرشحين المحظيين على لوائح التغيير ..
فنجاة عون و ياسين ياسين مثلا يشكلان نموذجا متقدما للنواب المخلصين الذين يؤتمنون على بناء الدولة الحديثة .. بينما يقدم “الباراشوتيان” وضاح الصادق و سينتيا زرازير نماذج مختلفة قد تكون ملتبسة للغاية للكثير من اللبنانيين، و قد لا تتماشى مع نقاوة و اصالة الرسالة التغييرية..ان انتهاء الانتخابات لن يوقف الحديث او الكتابة عن هموم اللبنانيين و مآسيهم…فلا الثورة انتهت، ولا المطالب تحققت، والطغمة الحاكمة ما زالت للاسف هي هي..لذلك، يجب أن يعي “التغييريون الجدد” جيدا انه، و كما أن لا حصرية في موضوع المقاومة لاحد، فإنه لا حصرية ايضا بموضوع الثورة لاحد، و انه لا يوجد استطرادا حقوق ملكية فكرية لكلمة “تغيير” او لعبارة “تغييريين” بالمطلق.. ان اعطاء الوكالة “للتغييريين الجدد” من قبل ناخبيهم لا يجب ان تفسر باي حال من الاحوال على أنها “شك على بياض”، لا من باقي اجنحة التغييريين، و لا من الناخبين اللبنانيين بشكل عام، و ذلك كي يعي الجميع و يتحمل مسؤولياته الشخصية و الوطنية..ان فداحة الأزمة و تجارب اللبنانيين المتعاقبة و المخيبة للامال جعلت أعين الجميع الان مفتحة اكثر من اي وقت على التغييريين قبل غيرهم، وهؤلاء ينبغي اعطائهم فرصة لتحقيق التغيير المنشود، و ليس فقط للكلام عنه… المطلوب اذا التركيز الان على خبز المواطن .. و صحة المواطن…و وجع المواطن… وتحويشة عمر المواطن… و مستقبل الوطن والمواطن.. فلا شيئ اهم من ذلك في هذه المرحلة الحساسة، و لا عناوين تعلو على ما سبق.. ولا بد من ترك المسائل الخلافية الاخرى (وما أكثرها) إلى وقت آخر قريب كي لا يخسر التغييريون (كل التغييريين) بالنقاط ما ربحوه للتو بالضربة القاضية!!
“لا تخذلونا”!.. عبارة قالتها تلك العجوز البيروتية الثمانينية للائحة بيروت التغيير في مقهى الروضة قبل الانتخابات باسبوع.. وستبقى تلك العبارة الرمزية معلقة برقبة جميع نواب لبنان، تغييريين كانوا ام لا، للتذكير بأن الشعب اللبناني “صحصح” وانه، وأن كان يعطي الفرص للبعض.. ولكنه ايضا.. “حيحاسب”!