يدفع الأطفال من صحتهم ومعيشتهم ثمناً باهظاً للأزمات المستعصية التي تعصف بلبنان منذ العام 2019، بحيث تُجبر هذه الأزمات المتلاحقة معظمهم على التكيف مع واقع مرير يسلب منهم كل حقوقهم التي نصّت عليها الأعراف والقوانين الدولية. فقد أشار أحدث تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف”، إلى أن مئات الآلاف من الأطفال في لبنان معرضون للخطر، وهناك عدد متزايد منهم ينامون وهم جياع، والكثيرون لا يتلقون الرعاية الصحية التي يحتاجون إليها ولا يمكنهم الذهاب إلى مدرستهم.
التقرير الذي حمل عنوان “البقاء على قيد الحياة من دون أساسيات العيش: تفاقم تأثيرات الأزمة اللبنانية على الأطفال”، استند فيه إلى تقويمين سريعين ركزا على الأطفال أجرتهما المنظمة في نيسان 2021 ثم كرّرته في تشرين الأول 2021 بين الأسر نفسها. وقد أظهرت النسب تراجعاً دراماتيكياً في أسلوب عيش الأطفال اللبنانيين، مشيراً إلى أنه في ظل عدم وجود ضوء في الأفق يوحي باقتراب إيجاد الحلول للأزمة اللبنانية، يشتد تأثير تلك الأزمة عليهم بشكل تدريجي.
أرقام ومعطيات التقرير عكست تدهوراً هائلاً في الظروف المعيشية على مدى الأشهر الستة الماضية، بحيث أن أكثر من نصف الأسر تخطى طفل واحد لديها على الأقل وجبة طعام في شهر أيلول الماضي، ارتفاعاً من 37 في المئة في شهر نيسان الماضي. وفي محاولة منها لتأمين أساسيات البقاء على قيد الحياة ومواجهة التضخم الهائل وتزايد الفقر وندرة توافر الوظائف، اضطر 40 في المئة من الأسر (4 من كل 10 أسر) إلى بيع الأدوات المنزلية والأثاث، وكان على 7 من أصل كل 10 أسر شراء الطعام عبر مراكمة الفواتير غير المدفوعة أو عبر الاقتراض المباشر لشراء الطعام، مقارنة بنسبة 6 من أصل 10 أسر في نيسان 2021.
هذا وأفادت 30 في المئة من الأسر التي شملها الاستطلاع عن خفض نفقات التعليم بعدما كانت نسبتها 26 في المئة في نيسان الماضي. كما كان للأزمة المستشرية تأثيراً خطيراً على صحة الأطفال، بحيث أن 34 في المئة منهم لم يتلقوا الرعاية الصحية التي احتاجوا إليها، لتحقق بذلك ارتفاعاً من 28 في المئة في نيسان الماضي. كذلك ارتفعت أسعار الأدوية بشكل كبير، مما جعل العديد من الأسر غير قادرٍ على تحمل تكاليف الرعاية الصحية المناسبة لأطفالها، في ظل النقص الحاد في الأدوية الأساسية المتوافرة في البلاد (أكثر من 9 من كل 10 أسر بعدما كانت 7 من أصل 10)، لا سيما بعد أن عمدت الحكومة، اعتباراً من 16 تشرين الثاني الجاري إلى رفع الدعم تدريجياً عن أنواع معينة من الأدوية، بما فيها أدوية الأمراض المزمنة والمتعلقة بأمراض القلب وارتفاع مستوى الكوليسترول في الدم وضغط الدم.
وبحسب التقرير، فقد وجدت الكثير من الأسر نفسها مجبرة على اللجوء إلى آليات التكيف السلبية التي غالباً ما تعرض الأطفال للخطر بحيث لم يعد أمامهم أي خيار إلا العمل ووجدوا أنفسهم في الشارع في مواجهة مخاطر جسيمة، وأرسلت ما يعادل الـ 12 في المئة منها أطفالها إلى العمل في أيلول الماضي، مقارنة بحوالي 9 في المئة قبل ستة أشهر. أما عن أزمة المياه التي زادت الطين بلة، فباتت تشكل تهديداً هائلاً للصحة العامة، بعد أن عجزت أكثر من45 في المئة من الأسر عن الحصول على مياه الشرب الكافية مرة على الأقل في الأيام الثلاثين التي سبقت إجراء الاستطلاع، مقارنة بأقل من 20 في المئة في نيسان الماضي، في حين افتقر 35 في المئة من هؤلاء إلى مياه الشرب الآمنة بسبب ارتفاع تكلفتها ارتفاعاً من 28 في المئة. ولناحية الفقر، أشارت التقديرات الأخيرة إلى أن ما يزيد عن 8 من كل 10 أشخاص يعيشون في فقر، و34 في المئة هم في فقر مدقع، لتكون بذلك نتائج هذا التقرير قد أظهرت بوضوحٍ انحداراً خطيراً في كافة الأرقام والمؤشرات التي كان من المفترض بها أن تتحسن بشكل ولو نسبي بعد 6 أشهر خصوصاً بعد تشكيل الحكومة التي تم التعويل عليها كثيراً من أجل انتشال لبنان من الغرق بمن فيه، لكنها وقعت في الفخ السياسي الذي أطاح بكل أمل في اتخاذ أي إجراء يحمي الأطفال من العمالة والنقص الحاد في أمنهم الغذائي والاجتماعي.
هذا وأبقت اليونيسيف على ندائها بضرورة اتخاذ الحكومة إجراءات سريعة لحماية مستقبل الأطفال وضمان فرص تنميتهم ورفاهيتهم، عبر وضع الخلافات جانباً ودعم أجندة الإصلاحات الشاملة وإجراء مراجعات دقيقة في السياق القانوني والسياسية واعتماد تغيرات طويلة الأمد في المعايير القائمة توفر الحماية الفورية للفئات الأكثر ضعفاً، تزامناً مع استمرار الجهات المانحة في دعمها كحاجة ماسة من أجل الحفاظ على سلامة الأطفال وصحتهم المدرسية.