إنها اليوميات المتكررة البطيئة الملولة الخالية من ضجيج وصخب حيواتنا السابقة، إنها أيامنا المستجدة التي لم نتخيّل للحظة أن تمرّ علينا أو نمرّ بها، جلّ ما كنت اعتقده سابقاً أن السبب الأعظم الذي قد يمنعني من الخروج وممارسة يومياتي العادية هي فقط تلك القذائف أو الرصاص التي جعلتنا سجناء أماكننا في الكثير من الأحداث التي اعتدنا عليها منذ نعومة أظافرنا ورافقتنا إلى حاضرنا المرير في هذا المكان الذي ولدت فيه و لا زلت أجترّ ما تبقى من روح فيه.
فلو كتبت الآن ” لا زلت أحيا فيه” سأخون شفافيتي ومصداقيتي فما هو متاح هنا هو أقل بكثير من الحياة وأكثر بقليل من الموت، وربما إن أطلت الوصف قد يسقط هذا القليل بما تبقى من تفاصيل.
متأسفة إن كانت مقدمتي لا تشعر القارئ بالراحة أو بالآمال الكاذبة التي تعودنا أن نرددها كما الأغاني الوطنية ونحن بلا وطن.
و متأسفة أكثر للقرّاء الذين يحيون في أمكنة أخرى لا تشبه هذه الفوضى المسماة لبنان و سأطلب منهم عدم متابعة القراء ة.
بينما العالم بأسره مشغول بكيفية الخلاص من جائحة كورونا و محاولة انقاذ البشر من هذا الخطر الذي يهدد صحتهم و حياتهم ننشغل نحن كتجمعات شعوب في دولة لبنان الكبير بترسيخ خلافاتنا وانقساماتنا لنكون شهداء على لفظ “فكرة دولة لبنان” أنفاسها الأخيرة.
نحن مجرد مجموعات غير متجانسة و لا تتقبل الاختلاف وإن ادّعينا عكس ذلك كما ندعي الكثير من الأشياء كالشعارات الفارغة.
نخوّن بعضنا بعضا ونحن خونة أنفسنا بدايةً لأننا لم نسمح لذواتنا بأن نحظى بالأمان و السكينة والسند، لم نسمح بأن يكون لنا وطن يحمينا ونحميه، يعطينا ونعطيه، يحبنا فنفديه.
الانتماء كلمة نرددها كنوع من اثبات لوطنيتنا، لكن ما هو الوطن؟
هل هو الأمكنة والشوارع والبيوت؟
هل هو العائلة والأحبة والأصدقاء؟
هل هو الحنين للتفاصيل المكررة من يومياتنا و أعمارنا؟
هل الوطن هو من يرمي أبناءه دون مأوى ومأكل؟
هل هو من يترك العجزة ينامون على الأرصفة في الصقيع ليلاً؟
هل هو من يجعل المختلس رئيساً ومسؤولاً و صاحب الفكر جثة هامدة لأن أفكاره مختلفة ولا تناسب طموحاتهم في الاستحواذ على عقل الجماعة؟
هل الوطن هو استنزاف لكل طاقاتنا دون بصيص أمل بايجاد من يربت على كتفنا حين نصبح بأعمار أبائنا ويكون مصيرنا ومصير أولادنا هدر العمر فقط لا غير؟
اعتقد أن الوطن هو المكان الذي تحبه فيحبك بالمقابل، تعطيه من عمرك وتعبك وصحتك فيحميك بالمقابل ويمنحك الأمان، المشاعر غير المتبادلة هي عبث ولا يمكن أن يكون الوطن مجرد عبث يجب أن يكون المحب الحنون والملجأ، إلى أن يأتي اليوم الذي يبادلني فيه المحبة والعطف والأمان لن اعترف به وسأنكر مشاعري.